المقال الأول: باسم الدين أم بالرغم منه؟

لفت نظري كتيب للباحثة الإيطالية ديبورا تونيللي عنوانه “ألواح موسى، الوصايا العشر وأصل الديمقراطية”. وهو بحث طريف يجمع بين التفسير الكتابي (نسبة للكتاب المقدس) والنظرية السياسية، ترى فيه الباحثة أن الديمقراطية هي الثمرة الحلوة للزواج بين رافدي التراث المسيحي الغربي، وهما التراث اليهودي المسيحي من ناحية، والتراث اليوناني الروماني من ناحية ثانية، وهو ما يعبر عنه أحيانا بلقاء أورشليم وأثينا. هذه الفكرة غير جديدة، وقد أكد عليها في أكثر من مناسبة البابا الشرفي بندكتس السادس عشر، وهو ما يمثّل عنده الجذور المسيحية لأوروبا. أثار هذا الطرح جدلاً واسعًا، بين صفوف اللاهوتيين والمفكرين الكاثوليك أنفسهم، حول سر هذا الزواج “الأبدي” بين المسيحية والتراث اليوناني الروماني، ومدى انسجامه مع دعوى عالمية الدعوة المسيحية وانفتاحها على الثقافات الإنسانية. فلماذا على المسيحي الهندي مثلاً أن يمرّ إيمانه بالضرورة بتراث اليونان والرومان، أليس أقرب إليه منالا وجذورا تراث الفيدا واليوبانيشاد، أليس ذلك “عهده القديم”، على حد قول رايمون بانيكار؟! ألم تولد المسيحية ضمن السياق السامي المشرقي (الآرامي السرياني العربي)، وما التلاقح مع التراث الغربي إلا طارئ لاحق، وتعبير من تعبيراتها المتعددة؟!

السؤال الأكبر هنا فيما يخص الديمقراطية هو: هل توصّل الغرب إلى الحداثة والديمقراطية على الرغم من الدين أم بسبب الدين؟! لعل الجواب السائد خلال القرن العشرين، أن ذلك تم على الرغم من الدين، باعتبار الحداثة، والديمقراطية ثمرة من ثمارها، هما عملية تحرّر للعقل الإنساني من أسر الدين والأسطورة، وتحرّر للدولة من ربقة الكنيسة وسيطرتها. ولكن في القرن الواحد والعشرين، ومع عودة الديني للفضاء العام بأشكال مختلفة، باتت الأصوات القائلة بأنّ الحداثة، ومن ثمة الديقراطية وحقوق الإنسان، ما كانت لتكون لولا الدين، ولولا دين خاص دون غيره وهو الدين المسيحي (يمكن إدراج الدين اليهودي ضمنا باعتبار وحدة التراث اليهودي المسيحي)، وبشكل أخص المسيحية الغربية بفرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي، ذات الصلة بالتراث الأوروبي اليوناني الروماني. هذا يقصي بطبيعة الحال الإسلام، على الرغم من أن أوروبا أعادت اكتشاف الفلسفة اليونانية عن طريق المسلمين.
قد يبدو هذا التوجّه المتزايد في الغرب مشابهًا لتوجّه إسلامي يسعى لإيجاد “جذور” و “أصول” إسلامية لكل منتجات الحداثة، بما في ذلك الديمقراطية. فتغدو “الشورى” القرآنية هي أصل الحكم البرلماني، و”الخلافة الراشدة” مثالا يُحتذى به في “الحكم الديمقراطي”، وحقوق الإنسان اكتشاف إسلامي، هذا ناهيك عن “اشتراكية الإسلام” و”الجمهورية الإسلامية”، وهكذا دواليك. إنّه نوع من ردّ الاعتبار للذاكرة الدينية التي تعاني مأزقًا حقيقيًّا أمام الحداثة الزاحفة. إنه منطق تبريري يحوّل عقدة النقص إلى شيء من جنون العظمة، ورغبة جامحة لتأكيد الذات والهوية المهدّدتين حسب هذا المنطق.
قد تبدو هذه الصورة اختزالية وكاريكاتورية إلى حد ما، ويمكن لسائل أن يتساءل: وما الذي يمنع المتديّن أن يتكيّف مع الثقافة الحديثة بهذه الطريقة، بإيجاد قنوات للتواصل مع العالم الحديث بتبني أفضل ما هو موجود فيه من ديمقراطية وحقوق إنسان؟! أليس هذا أفضل من الانطواء والأصولية ورفض الحداثة جملةً وتفصيلاً ؟!
المشكلة في رأيي ليست في هذا التوجّه بحدّ ذاته، الذي يسعي لإيجاد قاعدة معرفية نظرية مشتركة بين التراث والحداثة، مما يسمح لاحقا بتبني موقف انتقائي رافض لبعض جوانب الحداثة ونتائجها مثل العلمانية الجذرية أو النسبوية الأخلاقية، كما يفسح تدريجيا مجالاً أوسع لمشاركة الديني (وبالتالي المتدينين) في الشأن العام. قد يكون هذا التوجّه مشروعًا بحكم الطبيعة التعددية للديمقراطية، ولكن ينبغي أن يتجنب جملة من المحاذير حتى لا يتحوّل إلى مجرّد نزعة دفاعية جدالية للاستهلاك المحلي والأيديولوجي. وتتمثّل هذه المحاذير، في رأيي، فيما يلي:
1. الاعتراف بأن النظام السياسي الديمقراطي إنّما هو وليد الحداثة (الغربية) والرأسمالية (الغربية)، وجملة من الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية الخاصة بالقارة العجوز وبناتها، وهو ما يسمى بالغرب. هناك شروط جعلت هذه الثقافة الخاصة ثقافة مهيمنة وعالمية، فرضت على الشعوب الأخرى أن تتفاعل معها قهرًا أو اختيارًا.
2. الاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني تبني نظرية القطيعة النوعية بين القديم والجديد، ولا إنكار إمكانية التراكم الحضاري والمعرفي والخبراتي بين الحضارات والثقافات الإنسانية، مما يتيح الفرصة للأخذ من الأفضل والتعلّم من الغير. كما أن هذا الاعتراف لا يعني أيضا الخضوع والاستسلام لنوع من الامبرالية الثقافية من دون مقاومة ورؤية نقدية. نحن شئنا أم أبينا في بطن هذه المعمعة الحضارية، وفي جوف هذه العولمة المحيطة بنا من كل جانب، اليوم لا تكاد توجد ثقافة لم تختلط بالحداثة، حتى الأصولية نفسها هناك من يعتبرها نتاج من نتاجات الحداثة المأزومة.
3. الاعتراف بأن ثمة في الفكر والممارسة الدينيين اليوم وعبر التاريخ، عوائق عديدة أعاقت وتعيق الدمقراطة واحترام حقوق الإنسان، وأن على الديمقراطية تخوض معركة ضرورية وحاسمة مع أفهام خاصة للدين حتى تترسخ على الأرض وتصبح جزءا من ثقافة الناس وحياتهم. إن الحديث أن “أصول” غير مباشرة وإسهامات وإرهاصات أدت تدريجيا لانبثاق فكر ديقراطي إنساني، لا يعني أن الأمر كان تلقائيا وطبيعيا هكذا من دون هزات وانتكاسات.
4. إن هذا لا يعني أن في الأديان ومنظوماتها أفكار ومبادئ وقيم أسهمت بطريقة أو بأخرى في بروز ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان. وأن الصراع بين القيم الديمقراطية والحقوقية وبعض التصورات الدينية يحمل في طياته صراعًا محتدما داخل كل دين بين قطبين يتجاذبان في اتجاهين متناقضين ومتعاكسين، وهما التديّن الإنساني والتديّن التسلّطي القمعي.
5. الاعتراف بأن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن الإطار الثقافي الغربي مرتبطة بجملة من القيم والمبادئ، يظل بعضها مرتبطا بأفكار وممارسات غريبة عن الفكر الديني التقليدي، تتعلق خاصةً بالحريات ومساحات التعدّد والتسامح، أمور يتحفّظ عليها الفكر الديني التقليدي وربما الإصلاحي، فتبدو الديمقراطية أو حقوق الإنسان في صياغتها الدينية هي ديمقراطية محدودة وبتحفّظ مقارنةً بالمتعارف عليه حداثيًّا. هذا الأمر ينطبق على المسيحية والإسلام بدرجات متفاوتة. السؤال المطروح هو هل يمكن فصل الوليد عن أمه؟ وإلى أي مدى لا تؤدّي الانتقائية والتلفيقية إلى حصار الديمقراطية وربما خنقها في المهد. فتكون النتيجة نسخة معدّلة ومختارة من التراث لملاءمة نسخة معدّلة ومنقحة من الديمقراطية؟!
إذا ما أخذت كل هذه الشروط بعين الاعتبار، فلا مانع عندي من البحث في جذور للديمقراطية في الفكر الديني. السؤال المطروح هو: كيف يمكن أن يكون المسلم ديمقراطيا حقا؟ وهل ينبغي له ذلك أصلا؟ وكأن الديمقراطية باتت أصلا من أصول الدين؟ وما هي المبادئ القرآنية التي تسمح بل تشجع على ذلك؟ أو ربما تعيق أو تحول دون ذلك؟ ذلك ما سأحاول الإجابة عنه في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *