الجمهوري: الوسطية خيارا حزبيا وائتلافيا

على أهمية المعطيات المباشرة ذات الصلة بالرزنامات السياسية وطموحات مختلف الفاعلين في الساحة فإنها لا تفسر لوحدها مغادرة الجمهوري للاتحاد من أجل تونس ثم لجبهة الإنقاذ . فخلال السنوات الثلاث المنقضية وجد الحزب نفسه مشدودا بين الموروث النضالي والفكري للديموقراطي التقدمي بسمته الوسطية وإكراهات السياسة التي جعلت قيادته الميدانية تنخرط في منطق استقطاب كلفه الكثير، وذلك قبل أن يعود إلى الساحة الأقرب لثوابته.

عندما حصلت الحركة الاحتجاجية التي انتهت بالإطاحة بحكم الرئيس بن علي وفتحت سيرورة من التحولات أراد أكثر من طرف توجيهها وفق مشروعه الخاص وأضفى عليها مفهومه الخاص للثورة، كان الحزب الديموقراطي التقدمي يحتل مكانة مرموقة في الساحة الوطنية لا بحكم حجمه وإنما بما يرمز إليه من جمع بين الاستقلال والكفاحية والاعتدال والعقلانية، ولنضاله ضد النظام الاستبدادي والزبائني واستشراء الفساد في أجهزة الدولة وفي المجتمع، وكذلك باعتباره حزبا إصلاحيا ينأى عن التطرف الإيديولوجي والخطاب المتشنج قدر رفضه أن يكون جزءا من الديكور الديموقراطي. حزب يطرح مشروعا إصلاحيا شاملا يوفق بين مبادئ اقتصاد السوق ومتطلبات العدالة الاجتماعية ويصالح بين مقتضيات الانفتاح على مكتسبات الحداثة والوفاء للشخصية الحضارية العربية الإسلامية، ويتباين في ذلك مع كل من التيارات الماضوية المحافظة والنزعات الحداثوية واللائكية الحاملة لرؤية عدمية عن الموروث الإسلامي.

شارك الحزب الديموقراطي التقدمي في حكومة الغنوشي في مناخ يسوده الانقسام داخل الساحة السياسية. وكان سيناريو الانتقال الذي اقترحه الحزب والقاضي بالابتداء بالانتخابات الرئاسية بعد تعديل دستور 1959 يزعج المنافسين فعملوا على إسقاطه لفائدة أجنداتهم الخاصة، سواء في ذلك حركة النهضة أو حزب المؤتمر أو أقصى اليسار، ولذلك كان من المفهوم أن تكون خصومة وتنازع مع النهضة. إلا أن المشكل كان أيضا في حجم ردّ الفعل الصادر عن القيادة وتبعات ذلك الصدام على توجهات الحزب: أي الانقلاب الذي حصل في موقعه وتحالفاته واختياراته الثقافية، والذي بدأ قبل انتخابات أكتوبر 2011 وتكرس إثر فوز النهضة وتزعمها لحكومة الترويكا. هكذا تشكلت معالم إستراتيجية تجد مبررها في سعي النهضة للهيمنة وإنفاذ مشروع مجتمع محافظ وحالة إنخرام في التوازن السياسي تقتضي معالجته تجميع شتات الديموقراطيين في حزب حداثي كبير.

خلال مرحلة أولى تكرس هذا التوجه في انفتاح الحزب على التنكوقراط والوسط البورجوازي المتغرب بصورة غيرت ملامحه الاجتماعية والثقافية وخطابه. وبالمقابل تم تهميش عديد من المناضلين الذين تحملوا عبء سنوات الجمر. وفي مرحلة ثانية تواصل نفس الاتجاه في ظل صعود حزب نداء تونس والضغوط التي سلطت لأجل تكوين الاتحاد من أجل تونس.

لقد دفع الجناح الذي تصدّر الحزب الجمهوري إلى الدخول في تحالف مع “نداء تونس” لاعتبارات انتخابية مبرّرا هذه الإستراتيجية بأن خوض المعركة بأكثر فرص النجاح يتطلب وجود فريق موحد في مواجهة فريق آخر تماما كما يحصل في مباراة كرة لا يخوضها إلا فريقان اثنان. وقد كان للحزب الجمهوري دور كبير في إسناد حزب النداء عند ظهوره وفي إعطائه مصداقية والدفاع عنه في وجه هجمات النهضة والمؤتمر وروابط حماية الثورة. بيد أن عدم اتضاح نوايا حزب النداء شكل عقبة أمام قيام اتفاق انتخابي.

من ناحية ثانية، قادت الاغتيالات السياسية إلى تشكل ائتلاف واسع للمعارضة آل على نفسه إسقاط حكومة فقدت كل مصداقية في التصدي لعنف الجماعات التكفيرية وأدارت الشأن العام بمنطق الغنيمة الحزبية. إلا أن جبهة الإنقاذ لم تخلو من الحسابات الضيقة لبعض الأطراف المكونة لها كالسعي  للهيمنة وإقصاء الجمهوري، والسبب الرئيسي لذلك يتعلق بالموقف من الوفاق الوطني: فبينما كان الجمهوري يدفع أكثر فأكثر باتجاه الحوار الوطني واقتراح حلول توافقية تحفظ السلم الأهلية وتمهد للاستقرار وعودة النشاط الاقتصادي، وهو ما تجلى في حوار دار الضيافة والمناقشات حول الدستور، لم يتردد منافسوه في تغذية النزوع ألاستئصالي والحلول القصوى والسعي بصيغ عدة إلى إلغاء كل مشروعية للمجلس التأسيسي.

لقد اتجه المشهد السياسي والإيديولوجي التونسي خلال الأشهر الأخيرة إلى التشكل وفق خطوط تباين تذكرنا بما عرفته تونس في مرحلة بن علي رغم تغير معطيات أساسية كثيرة: فثمة ثلاث قوى تشكل أضلاع المثلث السياسي وهي النهضة، التي ارتكبت أخطاء جسيمة مما أفقدها الشعبية التي كانت لها سنة 2011، والجبهة الشعبية، التي وظفت اغتيال زعاماتها بنجاح وارتبطت بحزب النداء على قاعدة الايدولوجيا الحداثية وإرادة استئصال الإسلاميين. يتميز الجمهوري عن هذه القوى بتموقعه في الوسط ولكنه مدعو إلى البحث عن توافقات مع الأطراف السياسية التي تقاسمه نفس الساحة لغاية بناء ائتلاف ديموقراطي  يجسد الاعتدال ويكون له وزن ودور فعال في بناء المستقبل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *